عندما حاول ديفيد كاميرون قبل عامين وقف الاتفاق الجديد حول المالية العامة في منطقة اليورو وفشل، بدا نيكولا ساركوزي فرحاً للغاية. وجد رئيس الوزراء البريطاني نفسه معزولاً أثناء جلسة عقدها القادة الأوروبيون في بروكسل استمرت طوال الليل. وذكر أحد القادة الذين كانوا في الاجتماع أن ساركوزي الذي كان في ذلك الوقت رئيساً لفرنسا، كان مسروراً جداً خلال الاجتماع. فبالنسبة إليه انكشفت أخيراً "40 سنة من النفاق" في السياسة البريطانية حيال أوروبا.
أما في هذه الأيام، فالاتهامات نفسها تُرشَق عبر القنال الإنجليزي، لكن في الاتجاه المعاكس. فقد أكد كاميرون أن مشكلات فرنسا الاقتصادية ستخدمه جيداً في حملة الانتخابات البريطانية التي تجرى في 2015. وتعتبر رئاسة الوزارة البريطانية أن فرانسوا هولاند، خليفة ساركوزي الاشتراكي في قصر الإليزيه، يمثل تحذيراً لكل من يفكر في مساندة حزب العمال برئاسة إيد ميليباند.
رسالة رئيس الوزراء اللاواعية التي تجدها بين السطور مفادها: انتخبوا حزب العمال، وسيكون مآل بريطانيا التي حققت الطفرة في ظل المحافظين مثل فرنسا الراكدة في ظل الحزب الاشتراكي. وبالطبع هولاند يشعر بالامتعاض من ذلك.
هذه لعبة سخيفة، على الرغم من أنها تعطينا، للأسف، صورة صحيحة عن منهج عدم الاكتراث الذي يتبعه كاميرون في السياسة الخارجية. يُفترض أن تعمل بريطانيا وفرنسا، الدولتان الوحيدتان في الاتحاد الأوروبي اللتان ترغبان في أن تكون لهما أهمية عالمية، على بناء تحالف دفاعي استراتيجي. لكن كاميرون ليس على وشك السماح بأي شيء صغير الأهمية إلى هذه الدرجة، ليقف في وجه إطلاق هجمات رخيصة في سبيل إعادة انتخابه.
للبريطانيين والفرنسيين تاريخ طويل يعود إلى عدة قرون من الحب والنفور وأحيانا الاقتتال. كان ذلك صحيحاً حتى عندما كانا في الجانب نفسه في حروب أوروبا الكبيرة، مثلما كان الحال في النصف الأول من القرن العشرين، ولم تكن المصالح المشتركة كافية أبداً لتبديد الشكوك المتبادلة بينهما. وإحساس فرنسا بالاستثناء يصطدم بالمشاعر نفسها التي تتملك البريطانيين. والقرون الطويلة من الاضطرار للتنافس مثقلة بالاختلافات البينة في طريقة الحياة والحالة المزاجية.
شهدتُ شيئاً من هذا في الفترة الأخيرة في تجمع خاص ضم مجموعة من النخب السياسية والاقتصادية من كلا البلدين. البريطانيون بصورة عامة جادون وعنيدون وعمليون، أما الفرنسيون فهم عاطفيون وعقائديون. والشائعات التي لا مفر منها التي يتم تبادلها أثناء جلسات السمر حول جولات هولاند الليلية على الدراجة النارية – والتي على ما يبدو كانت حديث صالونات التجميل الباريسية لأكثر من سنة قبل أن تكشف عنها الصحافة – هي تذكرة بأن الفرنسيين جادون أكثر بمسألة الجنس، بينما البريطانيون مرتاحون أكثر لضحكاتهم المكبوتة حول ذلك. أما في المسائل الأهم المتعلقة بالدولة، فنجد هولاند ممعناً في التفكير لكنه غير حازم، بينما يبدو كاميرون واثقاً بنفسه لكن تفكيره يتسم بالضحالة.
لكن توجد نقاط من التقارب. البريطانيون يحترمون ملكتهم، بينما الجمهوريون الفرنسيون مغرمون بالاستعراضات الباهرة لما يشبه الملكية القديمة. والبريطانيون يتمتعون بالطعام الفرنسي، بينما الفرنسيون معجبون بالمجتمع البريطاني الأقل اهتماماً بمركزية الدولة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية. وكلاهما بذل الدم والمال خارج حدود أوروبا.
الأسلوب التقليدي القديم في الحروب الكلامية يخفي وراءه حقيقة ألا رغبة لأي من الطرفين في مواجهة الآخر. ففرنسا وبريطانيا موجودتان في القارب نفسه، وهذا القارب يغرق ببطء. والأيام الصعبة التي يواجهانها في الداخل، تعكس تقلص حضورهما في الخارج. والمخاطر المشتركة بينهما مختبئة خلف تباينات قصيرة الأمد. فمن ناحية ظاهرية، يوجد لدى كاميرون شيء ليتباهى به. فالاقتصاد في بريطانيا ينمو 2 ـ 3 في المائة سنوياً، بينما النمو الفرنسي راكد. ونسبة البطالة في الجانب الإنجليزي 7 في المائة، تقابلها بطالة بنسبة 12 في المائة في فرنسا. ولندن ممتلئة بالشباب الفرنسيين المهنيين الأذكياء، الهاربين من النفقات العامة العالية والضرائب.
ومع ذلك، إذا عدنا بأنظارنا إلى الوراء وابتعدنا عن الأمور المباشرة، نجد أنهما يواجهان التحديات الاقتصادية الأساسية نفسها. فهما تكافحان للتنافس في عالم أصبحت فيه القوة الاقتصادية تتجه للدول الصاعدة في الشرق والجنوب. وبريطانيا بحاجة إلى استثمارات، وفرنسا بحاجة إلى إصلاحات.
وموقع فرنسا في منطقة اليورو – وأكثر من ذلك مستقبل منطقة اليورو نفسها – أصبح موضع تساؤل من سوق العمل المتيبسة والأعباء على الشركات، التي خنقت المؤسسات وثبطت خلق وظائف جديدة. وانتعاش الاقتصاد البريطاني قائم على طفرة الإسكان وارتفاع الإنفاق الاستهلاكي. وحتى بعد التخفيض الثقيل في قيمة الجنيه الاسترليني، فإن الارتفاع في الناتج يرافقه مقدار متزايد في العجز في الحساب الجاري. ولدى فرنسا قائمة من الشركات الناجحة في العالم، ولكن بريطانيا لا تصنع ما يكفي من الأشياء التي تريد الاقتصادات الناشئة شراءها.
والاعتقاد السائد بين قادة الأعمال الفرنسيين هو أنه يجب أن تُؤخذ خطة هولاند الأخيرة لتحديث الاقتصاد والتقليل من النفقات العامة على محمل الجد. لكنهم غير متأكدين من ذلك، وعليهم الانتظار، لكي تحدث تغيرات مهمة في الانتخابات الأوروبية التي تجرى في أيار (مايو)، وأيضاً انتظار التعيين اللاحق من قبل الرئيس لحكومة جديدة. لكن يبدو أن الإجماع هو أن الرئيس أصبح واعياً لحقيقة أن عدم عمل شيء يمكن أن يكون أكثر خطراً من الناحية السياسية من مواجهة حراس الوضع الراهن. أما بالنسبة لكاميرون، فإن كل ما يستطيع عمله هو الدعاء بأن تبدأ الشركات في بريطانيا بالاستثمار.
ويواجه البلدان الحقائق الجيوسياسية الصعبة نفسها. فكليهما يمتلك قوة نووية، ولكليهما مقعد دائم في مجلس الأمن، وكل منهما أحدث اضطراباً في مواقع أمنه واستقراره الاستراتيجي.
تنازلت فرنسا عن زعامتها السياسية لأوروبا لصالح القوة الاقتصادية الألمانية. والجهود البريطانية لوضع قدم في القنال الإنجليزي وأخرى في الأطلسي خسرت لصالح مشاعر مناهضة للتكامل الأوروبي من قبل المحافظين وبسبب الأهمية المتراجعة في واشنطن. وكان التراجع النسبي حتمياً دائماً في وجه صعود البقية. والخطر الآن هو أن يتحول هذا الجمود إلى تراجع كامل.
ستجد فرنسا وبريطانيا دائماً أشياءً تختلفان عليها. ومع ذلك لا يوجد لأي منهما خريطة تحدد مسارها في عالم لم يعد ينتمي للغرب. ربما يشعر البلدان بالارتياح حين يغرقان معاً، بدلاً من أن يتعاونا مع بعضهما بعضا. وسيكون هذا أمراً محزناً.